Saturday, August 07, 2010

اوتوبيس 45

نصف ساعة الآن في الشارع و شمس الظهيرة تتلذذ في شوي رأسي. انتظر اوتوبيس 45. ابدا بالشعور بالندم على غباء فكرة ان اعيد تفاصيل يوم متكرر في حياتي قد انتهيت منه لأبدأ يوم متكرر جديد في حياتي. لماذا كل هذا التعسف و اترك سيارتي و افضل ان استقل نفس الأوتوبيس الذي كنت استقله للذهاب الى عملي السابق. لسبب ما شعرت في البدء بالرومانسية لمجرد استرجاع ذكريات قديمة. الآن قيظ الصيف الحارق يشعرني كم كنت حمارا.

اوتوبيس 45 مثل الدنيا تماما. لاتجده ابدا عندما تحتاجه و العكس صحيح.

اخيرا بدأ القدر في تعاطفه معي و ظهر صاحب الطلعة البهية من بعيد. نفس مشاعر الحبيب بلقاء محبوبه. غادرت زملائي في الكفاح المسلح و رفاقي في انتظار المواصلات و بدأت استرجع ذكرياتي في ركوب المواصلات العامة او بمعنى اصح, اقتحامها.

الآن امارس هوايتي في تفرس وجوه الناس لاستنبط ايهم سيغادر مقعده اولا ثم انتظر الفرج. من الجيد ان لم تفقد قدراتك بعد اكثر من سنة لا تستخدم نفس الأوتوبيس. غادر الرجل الذي راهنت عليه سريعا و اخذت مكانه. ما هي الدنيا كده, كرسي الأوتوبيس ده لافف على الناس كلها و مش دايم لحد.

اتصل بصديق لكي اقوم بتأكيد ميعادنا و الذي من اجله اقوم بهذه المغامرة العظيمة متعددة الأبعاد. آسف ان كنت لم أخبرك حتى هذه اللحظة عن سبب كل هذا. لقد قررت ان اتواصل مع اصدقائي القدماء و زملائي سابقا في العمل و رتبنا لقاء لكي نلتقي عصر ذلك اليوم. حسنا, يبدوا من المكالمة ان كل شيء على مايرام و ان الميعاد سوف يتم كما هو مخطط.

اللعنة على شمس الحر. برغم حبي لمداعبتها لي وقت الشتاء الا اني اكره سماجتها وقت الصيف. ذلك لم يمنعني من استغرق في وجوه الناس من حولي, زملاء اوتوبيس 45. هنا فقط في الأتوبيس تعرف معنى الرحمة و الاحترام و الغضب و انفلات الأعصاب. تلك المشاعر الانسانية الصادقة التي لا تجدها الا في هذه البيئة المتحركة على 4 عجلات مثل الدنيا تماما.

هذا شاب تعب طوال النهار في شمس الصيف الحارقة في تجميع اوراق مختلفة تكتظ تحت ابطه. خمنت انها مرتبطة بخدمته العسكرية. اخير وجد مكان لكي يجلس . لم يمهله القدر كثيرا بعد 20 متر فقط سيتوقف الأوتوبيس و يصعد رجل عجوز. لن يبحث عن مكان لأن ذاك الشاب الذي قتلته الحياة من النعب لم يفكر لثانية في ان اعطاء مكانه للرجل العجوز. بذمتك ... اين تجد الرحمة الا في الاوتوبيس؟؟

هذا شاب آخر يتمتع بقدر من الوسامة و الهندام لم يتردد ايضا في ان يبادل مقعده مع فتاة جميلة صعدت الى الاوتوبيس الآن. راهنت نفسي انها حركة قام بها الشاب حتى يستطيع ان يفتح معها الكلام ويتبادلا ارقام الهواتف بنهاية الرحلة حتى يصبحوا على اتصال و يطمئن عليها. للأسف كسب الشاب الرهان و لم يلتفت الى الفتاة طوال فترة وجوده في الأوتوبيس. يبدو انه لازال هناك بعض الرجال الذين يتمتعون بالنخوة و يخافون على بنات الناس.

صعد الى الأوتوبيس الآن رجل يحمل صندوق أدوات, ذلك المخصص لعمال البناء. كان واضح عليه انه تعب من عمل اليوم. دخل و لم يجد مقعد فارغ ليرتاح عليه من عناء نهار طويل. نظر بشذر الى الأفارقة الذين يحتلون مقعدين في نهاية الأوتوبيس. زفر في غضب وملل و قال, هي المشرحة ناقصة قتلة؟؟

يمر الاوتوبيس على مدينة الموتي كما يحب زميل سابق لي في العمل تسمية تلك المنطقة من القاهرة حيث يخترق الأوتوبيس أحياء السيدة عائشة و الشافعي و البساتين. هي أحياء للأسف وقعت من ذاكرة القائميين على مسؤليات المواطنين في هذا البلد. هذه الأحياء حتى وقت قريب كانت مجرد مكان يرتاح فيه الأموات بعد عناء الحياة عندنا في مصر. الا انهم للأسف الآن اصبحوا يتضايقون من زحام الأحياء لهم. و طبعا لأن الميت قد و جد يقين ربه بعد الموت و يعرف معنى دنيا فانية, فانه يرأف بحال ذلك الذي سموه في يوم من الأيام المواطن محدود الدخل!!!

أخيرا يصل أوتوبيس 45 الى وجهته الأخيرة, المعادي. دائما عندما أتخيل الجنة اتخيل انها ستكون صورة منقحة من المعادي. شوارع جميلة و لون أخضر يشفي روحك من التلوث الذي تعانبه باقية اليوم في باقي القاهرة. حتى الناس هناك شكلهم مختلف, تحسهم حلويين كده و شكلهم يحببك في الحياة و الناس! طبعا احدثك عن المعادي القديمة التي خططها الخواجة زمان بالمسطرة و المنقلة, حتى انك لو شهدتها من الفضاء بفضل برنامج جوجل ايرث و جدت شيئا عجبا!!

نزلت في ميدان الحرية و تمشيت حتى ميدان الفاروق و هو مكان عزيز جدا على قلبي. على ميدان الفاروق يطل جامع الفاروق. هذا الجامع له في قلبي معزة خاصة ايضا حيث سرق حذائي هناك مرتين متتاليتين في شهر تقريبا. وحيث عمارته ذات الطابع الاسلامي المملوكي القديم تسحر عقلي وحيث الصفاء الروحي الذي استمد منه قسطا كبيرا يعين امثالي على الحياة. صليت العصر و جلست استمتع بروح الجامع بعض الوقت. وجدت نفسي اتحسر على تلك الأيام من تاريخ مصر حينما كان الأغنياء يمثلون نحو 1 في المائة من تعداد المصريين, الا انك كنت تسمع كثيرا عن الباشوات الذين يهبو لفعل الخيرات اوقافا من املاكهم المتميزة لمساعدة الفقراء و المحتاجين. تماما كالباشا الذي اوقف قطعة الأرض هذه في قلب المعادي التاريخية وبنى عليها جامع و مستشفى خيري و صيدلية للفقراء. ثم تتنهد حزنا على ما يفعله ال 1 في المائة الآن في باقي المصريين!


الآن دقت الساعة و جاء ميعادي مع اصدقائي.

اراكم لاحقا :)



No comments: